قصص قصيره للمرحومه الكاتبه والفنانه حنان الأغا
عندما تورق البراءة
وكانت الوجوه الواهنة المتغضنة يمر أحدها تلو الآخر تحملها أجساد متعبة من حمل أعباء الزمن ، بعضها من استطاع صعود درجات المنصة منتصبا معتمدا على نفسه وبعضها من تقوس ظهره ، والبعض الآخر ناءت بمساعدته ذراع نجله أو صديقه.
استدارت فوق متكئها إلى الجانب الآخر بسأم وهي تلقي جهاز التحكم على المنضدة الصغيرة قربها.
-- أف ، ينتظرونهم حتى يبدأوا بالتساقط مثل شجرة ميتة تسّاقط أوراقها مع كل نسمة هواء.
ثم التفتت إلى أولادها وقالت لهم إنهم يحدثون ضجة .
كانت ما تزال تستمع إلى صوت المذيع وهو يتلو بإيقاع رتيب ، أسماء المكرمين ، فشعرت بجفنيها يتثاقلان ، إلى أن طرق سمعها اسم ما. لم يكن غريبا فاستدارت ربع استدارة لترى رجلا مسنا يسنده شخص ما ويقوده لاستلام وسام التقدير.
أكملت استدارتها وقد خف الثقل عن جفنيها ففتحتهما وهي ترفع صوت التلفاز.
في لحظة من الزمن وجدت نفسها هناك بعيدا في منزل العائلة ، طفلة في السابعة ، وكان هو صديقا لوالدها ، ، رجلا في أواخر العقد الرابع ، مديرا لشركة كبرى،يعمل فيها شقيقها الأكبر. كانت العائلتان تتزاوران ، وفي كل زيارة كان يحضر لها دمية وأنواعا من الحلوى التي تحب، وكان أحيانا يقدم هديته لها قائلا :
-- تفضلي حبيبتي هذا لك .
سمعتهم ذات يوم يتحدثون بألم عن زوجته الأجنبية التي أخذت أولادها وسافرت إلى بلادها دون نية الرجوع ، وتركت روحه معلقة بهم ، والحديث جرّ حديثا كما يقال ، إلى أن سمعت شقيقها يقول لأمها إن مديره يحب الصغيرة جدا ــ يقصدها هي – فطارت من الفرح.
-ــ لهذا تركته زوجته . لأنه يحبني ! نعم .
كانت تستمع للأغنيات وكانت كلها عن الحب الضائع والموجود والآتي والذي لا يأتي ، وكانت الأفلام الهندية والعربية تملأ دور العرض وحدث ولا حرج.
ــ أمي . قالت لها ذات يوم هي تدللها وتداعب شعرها .
ــ نعم حبيبتي
ــ متى أصبح عروسا ؟
فوجئت أمها بالسؤال فصمتت برهة ، ثم أطلقت ضحكة جميلة .
ــ ما زلت طفلة يا حبيبتي ، وهذا السؤال مبكر جدا .
فشعرت بإحباط ما ، إلا أنها كررت السؤال في جلسة ودية أخرى ، لكنها هذه المرة استدركت بسرعة :
ـــ عندما يحب أحدهم فتاة ألا تصبح عروسَهُ ؟
نظرت الأم بحنان إلى المخلوق الصغير : ــ لقد كبرت بسرعة يا بنيتي !
ــ نعم نعم أعرف ، كنت أعرف أنني سوف أكبر بسرعة ،فهل سأصبح عروسهُ ؟
ــ عروس من؟
ــ هو . وذكرتْ لها اسمه .
ــ ألم يقل لكم إنه يحبني ؟
دمعت عينا أمها الجميلتان وهي تشرق بالضحك ، ثم نظرت إلى الوجه الصغير المقطب فأخذته بين راحتيها الدافئتين ، وجعلت تدلك الحاجبين الصغيرين والجبهة المقطبة بإبهاميها بحركة دائرية مريحة.
ــ حبيبتي الصغيرة . الحب كلمة صغيرة في حجمها كبيرة في معناها ، وليس كل حب يشترط الزواج ، أنا أحبك ، ووالدك يحبك وكذا إخوتك ، وهو أيضا يحبك مثلما نحبك ، تفهمين؟ يحضر لك الحلوى لأنك الصغرى هنا ، وتذكرينه بأبنائه الذين يحس بفقدهم .
ــ لكن يا أمي ..
ــ لا بأس حبيبتي ، لقد فهمت الأمر بطريقة مختلفة ، وهذا طبيعي لأنك صغيرة . تذكري كلماتي هذه وحاولي فهمها جيدا ، الوقت أمامك طويل كي تكبري وتتعلمي وتعملي وتتزوجي ، لكنك قبل هذا تكونين قد نسيت ملامحه .
حبست دموعها في عينيها بكبرياء طفلة أصبحت على شيء من الوعي فجأة.
ــ نعم ماما . أفهمك .
تململت بعد أن هبط بها بساط الريح عائدا ، وهمست لنفسها وهي تبتسم : ــ حبي الأول.
ـــ ماذا قلت ؟ أمي ماذا قلت؟
تساءل الأبناء .
ــ لا شيء .
ــ بل قلت شيئا عن .. الأول ! ماذا قلت؟ هيا أخبرينا .
ــ أنا؟ قلت شيئا ؟ آه ربما قلت العمر الأول !
وأطلقت ضحكة بينما تبادل أبناؤها نظرات مشاكسة : ـــ ربما !!
حنان الأغا
8 / 12 / 2007
_________________