للمرحومه الكاتبه حنان الأغا اسكنها الله فسيح جناته
إنهم يقتلون النسمات ، أيضا !!
كان صوته رتيبا إلا مما يعترضه من صوت ارتطام المركبة القادمة بالهواء عند اقترابها من نافذته ، عندها كانت تبتسم له ، أو تعقب بكلمة ما أو بهزة خفيفة من رأسها .كانت روحها تنطلق من نافذتها تعب الهواء الرطب وتبثه إلى خلايا جسدها التي تستشعر الجفاف.
تنطلق المركبة الفارهة تنهب الطريق الممتد بإيقاع من بحر متفرد يعلو تارة دون سبب وينخفض عندما تقترب من حفرة جسورة تفترش الطريق. وأثناء تحليقها ، حطت روحها في منطقة ما هي خط بين الحدباء والشهباء، تذكر أنها حاولت أن تملأ رئتيها بنسمة مضمخة برائحة قشور الفستق القرمزية إلا أن النسمة استعصت، واختفت فجأة، كذلك الرائحة التي ملأت الفضاء اختفت هي الأخرى فجأة .حدث الأمر نفسه في رحلة الإياب عند الخط ذاته . وتخيلته مثلث بيرمودا آخر لكنه متخصص في ابتلاع النسمات . وقالت لنفسها لو انه خط مرسوم لنزلت لحظتها ومسحته بأقدامها !
لكن يبدو أن هذين الواقفين إلى يمين الخط ويساره اختلفا حول ملكية النسمة وما تحمله من رائحة فقررا قتلها كي يتابعا النظر بإعجاب إلى بزتيهما المبرقعتين بأزرتهما اللامعة.
وينهمر شريط الذكريات ، وها هي تصل ذات يوم إلى نهر يقسم الأرض أرضيْن ، نهر عرفته طفلة ، وكانت نسماته تحمل روائح البرتقال والفتنة والتمرحنة وتبخها غربا وشرقا لتزرع الحب بين الأرواح المتآخية.ها هي النسمة تمزقت عند أقدام جدار بليد لا لون له، أبى عليها أن تصبح غيمة قد تحبل وتلد مطرا ، فتصبح المشكلة أكبر.
تذكر أنها كتبت حينها في دفترها : هل تحتاج النسمة إذنا كي تعبر ؟! وهل تحتاج الغيمة إذنا كي تمطر؟!
يأتيها صوته الآن كأنه عبر إليها البحار والصحارى : --- ما بك؟ أين وصلت ؟
--- معك ، أنا معك أتابع .
--- آه .قال الرجل .
---- إذا كعادتك مستمتعة بالطريق. وضحك ضحكة أظهرت ارتباكه.
-- كان الأفضل أن تسكتيني كي لا أعكر صفو التأمل .
--- لا . أكمل أرجوك .
ضحك وهو يستأنف حديثه :
---- لقد كان الحصان أبيض ، يتعالى صهيله ويشرئب بجيده في عنفوان . أظنه كان يحمل في عروقه دماء عربية أصيلة.وربما كانــــ...
بدأت الكلمة تفقد حرفا ، ثم حرفين ثم تختفي ، فتشرد روحها من جديد وهي تجلس إلى جانبه فيما واصلت المركبة اختراق السهل الشاسع ، سهل حوران الذي يمتد إلى جانبي خط من تلك الخطوط البليدة ، يحتضن بشرا ينطقون بلسان واحد ، ويحملون زوادتهم صباحا باتجاه الحقل ويعودون مساء محملين بخيرات الأرض .
ها هي الذاكرة تأبى إلا أن تسحبها بعيدا إلى طفولة مليئة بالأحداث . كانت العائلة تتخذ لنفسها مقصورة في القطار الحديدي القديم المنطلق من محطته الجنوبية في قلب عمان إلى الأخرى الشمالية قاطعا السهل الفسيح ، حيث كان المشهد يعبر إليها من النوافذ جميعها الواحدة تلو الأخرى كأنه شريط سينمائي خفضت سرعة عرضه فبانت تقطيعات الصورة جلية واضحة.، أخضر في الرحلة الربيعية وذهبيا في رحلة الصيف وموسم الحصاد. لم يكن هناك وقوف ، بل تسارع وتسارع حتى يصل القطار إلى محطته الشمالية في قلب دمشق . لقد ذهبت تلك الأيام بنقائها وطهرها ، أخذت معها الحب وخّلفت خطوطا ونقاطا تفل الحديد وتقهر البشر.
تسللت إلى أنفها روائح سنابل الحنطة الخضراء المشوية في أكوام على مد البصر ، في الوقت الذي أحست فيه بصوت المركبة المتباطىء ، مما يعني أنها الحدود .
الخط مرة أخرى ! قالت بحنق لفت نظر الرجل فتساءل ، لكنها هزت رأسها أنْ لا شيء .
فرمقها معاتبا:
---- لم تنصتي لقصة الفيلم .
أدرك أنه أحرجها ، فأطلق ضحكة صاخبة :
--- فيلم أجنبي اسمه (إنهم يقتلون الجياد أيضا ) .
اقتنصت نسمة ما تزال تحمل رائحة الحنطة المشوية . كانت نسمة حرة تحمل هوية عابرة للحدود ، احتضنتها في صدرها وهي تجيبه:
---إنهم يقتلون النسمات ، أيضا !!
____________
حنان الأغا
28 / 8/ 2007